أعمدة

محمد المنسي قنديل | يكتب : يسرى مارديني أقوى من الألم

محمد المنسي قنديل

لعن الله السياسة، أول كلمات تتبادر للذهن ونحن نتابع أفواج الرياضيين في افتتاح الألعاب الأوليمبية في ملعب “ماراكانا” في ريو دي جانيرو، لحظة نادرة من تاريخ البشرية تلتقي فيها دون حروب أو صراع، يسير شباب الرياضيين متألقين بثيابهم الذهبية وأحلامهم العريضة في الحصول على الميدليات الذهبية، ولكن وسط هذا الوهج الزاهي يسير طابور صغير لا يتكون إلا من عشرة أفراد، لا عَلَم له، لذا يكتفي برفع العلم الأوليمبي، ولانشيد وطني له، لذلك لا صوت له إلا الصمت، إنه طابور اللاجئين، بضعة من الأبطال الرياضيين الذين خرجوا من حطام العالم، بقايا الحروب الأهلية والقمع والمجاعات، أبطال أوليمبيون كانت هذه فرصتهم للتألق تحت أعلام بلدانهم، ولكن ساستهم ضنوا عليهم بها، تكاثر عدد اللاجئين خاصة في عالمنا العربي التعيس، ولم يعد من الممكن تجاهلهم، لا بد من مكان ولو ضئيلا تحت الشمس، لذلك أعلنت اللجنة الأوليمبية في مارس الماضي أنها سوف تقبل فريقا من اللاجئين يسيرون تحت علمها، وتركت المهمة للأمم المتحدة لتقوم باختيارهم، تم رصد 43 رياضيا يعيشون بعيدا عن أوطانهم في بلدان متفرقة، اختير عشرة منهم، من بينهم السباحة السورية يسرى مارديني التي أصبحت حدث العالم، ولم يستطع توماس باخرئيس اللجنة الأوليمبية أن يتجاهل هذا الطابور الصغير فقال في خطاب الافتتاح: “أنتم تبعثون برسالة أمل لملايين اللاجئين حول العالم. لقد اضطررتم إلى السفر من بلادكم بسبب العنف، أو الجوع، أو لأنكم فقط مختلفون، الآن ومع موهبتكم الرائعة وروحكم الإنسانية تسهمون بشكل كبير في المجتمع البشري”.

كانت يسرى وسط هذا الطابور الصغير وهي تضحك في جذل، لحظة من الحلم كانت بديلا عن كابوس الغرق في عرض البحر، رحل شبح الموت بعيدا، كانت قد جاءت من لمانيا حيث تجمع شمل أسرتها، تمارس التدريب في حمام سباحة صغير على يد مدرب ألماني ليس مشهورا هو  سفنس بانكربز، عطف على هذه اللاجئة الصغيرة وقرر أن يخصص لها بعضا من وقته، لم تتعد الفترة التي تدربت فيها معًا سوى خمسة أشهر، وقبلها كانت قد انقطعت عن التدريب لمدة عامين بسبب الحرب في سوريا، ولم يصدق المدرب أذنيه حين سمع بإعلان اللجنة الأولمبية عن اختيارها لبعض اللاجئين حتى يشاركوا في الأوليمبياد، كان ذلك في مارس الماضي، أدرك أن تلك الفتاة السورية البالغة من العمر ثمانية عشر عاما يجب أن تكون من بينهم، لكنه لم يدرك مدى الاهتمام الذي يمكن أن يحدثه هذا الاختيار، لقد تحول المدرب المجهول إلى محط اهتمام كل أجهزة الإعلام، وتلقى في اليوم الأول أكثر من عشرين مكالمة من كل أنحاء العالم، واضطر إلى أن يلقى بالهاتف داخل الثلاجة كما يقول، ولكن الصحفيين تجمعوا في حمام السباحة المحلي الصغير ليقابلوا الأختين مارديني، وتحت أضواء الفلاشات وتكتكات آلات التصوير بدأت يسرى تقص عليهم حكاية هروبها هي وأختها من دمشق التعيسة، في الصيف الماضي قررت هي وأختها “سارة” الأكبر منها سنا، بدءًا برحلة طويلة استغرقت شهرا كاملا، الخطوة الأولي هي التسلل من دمشق إلى بيروت ، كان معهما عم أبيها وثلاثين من اللاجئين ومعهم طفل لا يزيد عمره على ثلاثة أشهر، تقابلوا مع أهله في الطريق، تقول: “كنا أشبه بعائلة”، وفي بيروت دفعوا المال لبعض المهربين المحترفين الذين أوصلوهم إلى أزمير في تركيا، وبدأ الجزء الأخطر من الرحلة حين استقلوا قاربا مطاطيا إلى جزيرة ليسوس في اليونان، لم يكن القارب يتسع إلا لستة أشخاص، ولكن عددهم كان يزيد على الثلاثين، وكان لا بد أن يتعطل المحرك وأن يصبح اللاجئون الذين لا يعرفون السباحة تحت رحمة الأمواج، وقفزت الأختان ومعهما فتاة ثالثة إلى الماء، ظللن يتناوبن على جذب القارب من الحبال المربوطة به لمدة ثلاث ساعات ونصف، حتى وصلت بهم إلى شاطئ الجزيرة، أنقذتهم جميعا، تقول: “شعرت أنه من المخجل حقا أن أترك القارب يتعرض للغرق ونحن سباحات، رغم أنني كرهت البحر بعد ذلك”.

الوصول إلى اليونان هو فقط مجرد البداية، لم تكف الأختان عن عبور الأسلاك الشائكة، تسللتا عبر الحدود خلال مقدونيا وصربيا والمجر والنمسا، بواسطة القطار أحيانا، وعلى الأقدام في معظم الأحيان، كانت لهما وجهة واحدة.. ألمانيا، تقول: “كنا نعرف أن في ألمانيا يوجد أجود السباحين”، كانت هي بطلة سوريا، فراشة صغيرة لم تغادر المياه، قام أبوها السباح السابق بتدريبها منذ أن كانت في الثالثة من عمرها، ولكن الأوضاع أخذت في التهور، أصبحت سوريا بلدا صعبا، اخترقت قذيفة سقف حمام السباحة الذي تتدرب فيه، تقول: “شعرت أنا وأختي أنه لم يعد لدينا ما نخسره، دمر البيت الذي كنا نقيم فيه، وتحطم حمام السباحة الذي كنا نتدرب فيه، وكان علينا أن نرحل بعيدا”، تتذكر بعضا من وقائع رحلة هروبها الطويل، ذات مرة كانت تختبئ هي وأختها لساعات طوال داخل حقول الذرة على الحدود بين صربيا والمجر، واستطاعت التسلل إلى إحدى محطات القطار القريبة، ولكن الشرطة المجرية قبضت عليهما، وكان الرجال غاضبين لأنهما لم تكفّا عن الضحك طوال الوقت، تقول: “كنا ذات لحظة على وشك الموت غرقا في البحر، فلماذا أخاف من بضعة رجال شرطة، أخذونا بعد ذلك إلى معسكر لاحتجاز اللاجئين، وقالوا لنا إن علينا أن نبقى هنا ليومين أو ثلاثة، ولكننا هربنا منه بالطبع”، ولكن الأمور تغيرت بعد أن استطعنا الوصول إلى النمسا، كل واحد عانقنا وأعطونا دمية الدبة “تيدي” وكل شيء كنت بحاجة إليه حتى شامبو الشعر”.

وبعد شهر واحد من استقرارها في برلين لحقت بهما بقية الأسرة ووضعوا جميعا في معسكر للاجئين، وكان السؤال الأول لهما: أين يمكن أن نجد حماما للسباحة؟ وكان مترجم مصري يعمل في المعسكر هو الذي دلهم على حمام السباحة في “واسرفروند” وهناك قابلت مدربها الجديد، واستطاعت أيضا أن تدخل إحدى المدارس واحتفلت هناك بعيد ميلادها الثامن عشر، ورغم كل هذا فلم يمنعها من الإحساس بالحنين لموطنها “أفتقد حقا لأصدقائي في سوريا، إلى منزلي وسريري الصغير، أفتقد لكل شيء”.

تحلم يسرى أن تقود طائرة ذات يوم، ولكن تركيزها الآن كله على الماء، ورغم اشتراكها في دورة الألعاب هذه فهي تعرف أنها بعيدة عنها، وتركز كل اهتمامها منذ الآن على دورة الألعاب القادمة 2020 في طوكيو،  لقد فازت في المنافسة الأولى، سباق 100 متر فراشة، ولكنها خسرت في السباق الذي تلا ذلك، وسط تعاطف الجميع وتشجيعهم، وتحدث معها بعض زملائها الرياضيين السوريين الذين حضروا لريو  حتى تعدل وضعها وتدخل تحت علم بلادها، ولكنها قالت إنها مجرد سباحة ولا شأن لها بالسياسة، وتستعد هوليوود لإنتاج فيلم عن حياتها، العالم كله يهتم بهذه الفراشة الصغيرة، إلا واحدة فقط شاءت أن تتجاهلها هي السيدة أسماء الأسد، واحدة من أسباب محنتها، لقد حيت كل الرياضيين السوريين المشاركين في الأوليمبياد دون أن تذكر يسرى مارديني، ولكن ماذا يهم هذه السيدة هي وزوجها بشار الأسد من العالم بعد أن دمرا بلدا بأكمله؟

shady zaabl

كاتب صحفي مصري مهتم بالمواقع الإلكترونية وإدارتها وكتابة المقالات في جميع الأقسام وذو خبرة في الصحافة والإعلام والمحتوى لـ 5 سنوات وفقً لدراسة أكاديمية وتطبيق عملي .
زر الذهاب إلى الأعلى