أعمدة

محمد المنسي قنديل | يكتب :استعذاب الإهانة!

محمد المنسي قنديل

هل نحن شعب مريض؟ أو بالأحرى شعب من المجانين كما تصفنا بعض الصحف الأجنبية؟ لم أكن أعتقد ذلك حتى أيام قليلة، كنت متأكدًا أن هناك خطأ في المعلومة التي شاعت من أنه قد تم الحكم على طفل صغير بالمؤبد، وبالتالي كان هناك خطأ في الاستنتاج، كل ما في الأمر أنه كان مجرد تشابه في الأسماء..

كان يجب أن أصدق ذلك، فمن المستحيل أن تصل الغرابة في الأحكام القضائية إلى هذه الدرجة، ولكني فوجئت بما هو أخطر، حكم جديد ليس صادمًا ولا غريبًا فقط، ولكن من المستحيل أن يصدر عن قاض جليل، إلا إذا كان للجلالة معنى آخر لا أفهمه، فقد قام  قاضٍ  في إحدى دوائر المنيا بالحكم على ثلاثة من الأولاد الصغار بالسجن لمدة خمس سنوات، وتحويل طفل رابع إلى إصلاحية الأحداث، مستندًا إلى تلك التهمة الغامضة المسماة ازدراء الأديان، وفي الحقيقة، ووفقًا للفيديو الذي تمت إذاعته، والذي لا يتجاوز 45 ثانية، لم يكن هناك أي ازدراء لأي دين، ولكنها العقول المغلقة، ومنها التي تسكن رأس هذا القاضي، رأت ذلك، ولم يشف غليله إلا هذا الحكم  القاسي الذي يوشك أن يطيح بمستقبل هؤلاء الصغار، وتقضي على إحساس أهاليهم في العيش في وطن آمن، فالحكم المتعصب لم يصدر إلا عن ذات متعصبة، لم تر في هؤلاء الأطفال إلا ثلاثة من المسيحيين الأشرار، لا هَمّ لهم إلا هدم الدين الإسلامي وإهانته، المشكلة أن وسائل الإعلام العالمي قد التقطت هذا الحكم لتدلل به على فساد القضاء المصري وتعصبه وعدم التزامه بالقانون الإنساني الذي يحرم سجن الأطفال، وحدها إسرائيل هي التي تخالف هذا القانون، وحدها هي التي أصدرت قانونا يبيح سجن الأطفال دون سن الرابعة عشرة، ولكن إسرائيل دولة احتلال، وهي تكنّ عداوة خاصة لكل أطفال فلسطين، لأنهم المستقبل الذي تحاول اغتياله قبل أن ينمو، فما هي حجتنا نحن، هل لدينا نفس دوافعهم، هل نريد أن نعطي إثباتا للعالم أننا دولة متعصبة، يصدر بعض القضاة فيها أحكاما لا تخضع لأي منطق؟!
جريمة هؤلاء الأطفال -إذا كانت هناك جريمة حقا- هي أنهم قاموا بتمثيلية يصورون فيها “داعش” وهم يقومون بذبح مسلمين أثناء قيامهم بالصلاة، “داعش” الذي نسبّه جميعًا ونقشعر من أفعاله، أصبح فجأة رمزًا للإسلام، وأصبح من الواجب الدافع عنه، وسجن من ينتقده!

ماذا لو أن الأطفال الذين قاموا بهذه المسرحية كانوا مسلمين؟ ماذا كانت ستكون ردة فعل القاضي؟ هل سيكون بهذه القسوة أم أن حكمه عليهم جاء بهذا العنف لأنهم كانوا الحلقة الأضعف؟ لقد حوّل المتعصبون الوطن الذي نعيش فيه مع إخوتنا المسيحيين إلى موطن للعذاب، يحرقون فيه  كنائسهم، ويهجرونهم من قراهم، وينفذون فيهم الأحكام العرفية التي لا تخضع لقانون، وبعد ذلك نتحدث عن وطن واحد يضمنا جميعًا.

892590979452563538
ورغم ذلك فهذا الحكم يأتي في فترة من الزمن تعصف فيه الأحكام القضائية من هذه النوعية بالجميع، فهذا القاضي يمت بصلة قرابة للقاضي الذي حكم على أحمد ناجي بالسجن، لأنه خدش الحياء العام، ولا بد أيضا، يمتّ بصلة قرابة للقاضيين اللذين حكما بالسجن على فاطمة ناعوت وعلى إسلام البحيري بتهمة ازدراء الأديان، وهم جميعًا ينتمون إلى قبيلة واسعة من القضاة قاموا بسجن شباب الثورة استنادًا إلى تهم واهية، وإصدار أحكام الإعدام الجماعي التي تثير سخط العالم، وسجن صحفيي “الجزيرة” لأنهم يمارسون أعمالهم وأثاروا علينا كل صحف العالم وكل المؤمنين بحرية الإعلام. لقد أصدرنا كل أنواع الأحكام التي تثير ضدنا حفيظة الآخرين، وكلما هدأت الضجة قليلا سارعنا بإشعال فتيل الفضائح حتى تتجه الأنظار نحونا، ويبدو أن البعض منا أصبح يستعذب الإهانة، ظاهرة مرضية أصابتنا جميعًا بحالة مازوخية تستلزم العلاج.
المازوخية، هي الحالة التي نعيشها الآن، مزيج من استعذاب الإهانة والألم، بخلاف مرض السادية الذى يسعى مرضاه لإيلام الآخرين، على العكس من المازوخية التي تستمد اللذة من إيلام الذات.

وينسب أصل الكلمة إلى كاتب نمساوي يدعى ليوبولد بازوخ، ألف رواية تدعى “فينوس في الفراء” استوحى فيها تجربته الذاتية وبخاصة في مرحلة الطفولة، ووصف فيها العديد من الممارسات المؤلمة ضد ذاته والتي كانت تبعث باللذة في داخله، وبعد أن انتشر هذا التعريف شعر المؤلف بالخجل منه، وعاش بقية حياته وهو يحاول نفي صلته بهذه الظاهرة ولكنها ظلت ملتصقة باسمه، وكانت في بدايتها ذات طابع جنسي، ولكنها أخذت بعد ذلك بُعدها الاجتماعي والسياسي والاجتماعي، وتم رصدها في العديد من التجمعات البشرية التي تهوى إيلام الذات، وأقرب النماذج في عالمنا العربي هو ما تفعله الشيعة في “يوم عاشوراء” الذي يطلقون عليه يوم الدم، فهم يكفرون في هذا اليوم عن إحساسهم الكبير بالندم على مقتل سيدنا الحسين في كربلاء، وعلى مدى يوم كامل يقومون باللطم والعويل وضرب ظهورهم العارية بالسلاسل وشج جباههم حتى تسيل منها الدماء، حالة مازوخية متطرفة تصيب الجميع في هذا اليوم، من خلال طقس قاس يغلفه إطار ديني يسوغ استعذاب الألم، تكفيرًا للندم على واقعة مر عليها مئات السنين، ولكنها لا تزال متوهجة في النفوس، ولا ينجو من ممارستها حتى الأطفال الصغار الذين يقوم الآباء بشج رؤوسهم وضربهم بالسلاسل.

3098908269738368492
نحن الآن نقوم بهذا الطقس المازوخي بطريقة مختلفة، نقدم للآخرين المبررات الضرورية ليهاجمونا ويشهروا بنا، ثم يحلو لنا التحدث بعد ذلك عن المؤامرة الكونية التي تحيق بنا، ويعزز هذا الشعور المازوخي موقفنا من سد النهضة، السد الذي نعتقد أن الجميع يسهمون في بنائه نكاية فينا، الأصدقاء والأعداء، ومع ذلك نقف عاجزين وهو يرتفع يومًا بعد يوم، ننتظر اليوم الذي ستنقطع فيه كل المياه ويجف النهر الذي لم تتوقف المياه فيه على مدى آلاف السنين، وهكذا يكمل الموت عطشًا وجهًا آخر من وجوه المازوخية ويكتمل إحساسنا بالمؤامرة.

ومن الغريب أن هذه المشاعر المازوخية لا تكتمل إلا بالوجه الآخر للعملة، المشاعر السادية التي نمارسها ضد بعضنا بعضا، ذلك العنف الذي تفشى في كل مناحي حياتنا، ولعل تلك الأحكام القضائية القاسية هي أكثر المظاهر التي نعاني منها.

أحكام السجن من أجل تهم تافهة هي نوع من السادية المريضة، نوع من الانتقام خارج عن القانون، فالتهم كلها تقديرية، ليست لها نصوص محددة، ولكنها تعتمد على ضمير القاضي وحسه بالعدالة، ولكن العدالة في مصر مريضة، ونحن شعب من المرضى رغم أننا نتظاهر بالعكس.

 المصدر

زر الذهاب إلى الأعلى