أعمدة

محمد المنسي قنديل | يكتب : ماذا حدث للربيع العربي؟!

محمد المنسي قنديل

صورة تذكارية تثير الكآبة، تضم عدة أشخاص اجتمعوا في جلسة صلح بين إعلامي متملق، وآخر أشد منه تملقا، كلامهما واحد تقريبا، ولكن كلا منهما يريد أن يثبت أنه الأكثر ولاء للنظام، أي أن المبالغة في التملق فقط هي سبب الخصومة، وتحتشد الصورة بعدد من الوجوه التي أصبحت تطفو كبقع الزيت الملوث على سطح الحياة العامة. انتهازيون وأفاقون ومطبلون لكل الأنظمة، هذا ما بقي من حطام الثورة، من حلمها الجامح للتغيير، فالحرب لا يكسبها سوى الجبناء كما يقولون، لأنهم يختبئون في وقت الصراع، ويظهرون ليقفزوا فوق فتات الغنائم، ماذا بقي من الربيع الذي هز مصر، وهز الأرض العربية من أدناها إلى أقصاها؟ لماذا تجمعت كل هذه الوجوه الكريهة في صورة واحدة؟

منذ خمس سنوات اشتعلت نيران حلم الثورة بطريقة عارضة، عندما رفض بائع شاب في أحد شوارع تونس، أن يعطي طائرًا مجانا لواحدة من أفراد الشرطة، لم يتجاوز ثمن الطائر سبعة دنانير، وقامت الشرطية بلطم البائع على وجهه وتحطيم عربته، اسم البائع هو “بوعزيزة”، كان يعول أمه وخمسة من إخوته الصغار، لم يكن يتجاوز دخله اليومي خمسة دنانير، أحس بالإهانة مضاعفة عندما ذهب يشكو للمسئولين فلم يستجب له أحد.

إهانة يمكن أن تحدث في أي مكان في العالم لأي شخص مدني مثلنا، ولكن المخزون الطويل من المرارة في داخله، من تصرفات الشرطة اليومية، علمًا بأن رئيس الجمهورية كان أيضا شرطيا، وفي لحظة من اليأس توجه الشاب إلى مقر الحكومة في بلدته وسكب الوقود على جسده وأشعل في نفسه النار، ومات بعد ذلك بأسبوعين  ونصف، ولكن النار لم تخمد بموته، انتشرت مأساته إلى كل مكان في تونس، ارتفعت صيحات الرفض حتى أصمت أذن الرئاسة، وظل الرئيس يردد في بلاهة: فهمتكم.. حتى ركب طائرته وفر هاربًا، ولم تتوقف الثورة في تونس، عبرت حدودها، وفي خلال اربعة عشر شهرا، سقط رؤساء تونس ومصر وسوريا واليمن، وكانوا جميعا قد حكموا بلادهم لمدة 117 عاما، قهرًا وتسلطًا، ولكن بعد خمس سنوات من إزاحتهم أصبحت الأمور أسوأ، وبات ثمن الثورات فادحًا، لم تنجح عملية الانتقال إلى نظام جديد أكثر ديمقراطية، وظلت العدالة غائبة عن الأرض العربية كما تعودت أن تكون، وبدلا من مطاردة أعداء الثورة أخذت الأنظمة تطارد الثوار.

تونس هي الدولة الأولى والأكثر نجاحًا في عملية التحول، ولكنها أصبحت أيضا أكثر الدول التي يخرج منها المقاتلون الذين ينضمون لداعش، على الأقل هناك ثلاثة آلاف رجل وامرأة انضموا لهذا التنظيم، ومنذ فترة قريبة استطاع انتحاري أن يقتل 12 من الحرس الرئاسي، وكان السائحون الأوروبيون هدفا لاثنين من الهجمات الإرهابية، علمًا بأن السياحة هي عماد الاقتصاد التونسي، ولا تزال بنيتها الأساسية هشة.

في ليبيا، أكثر الدول الإفريقية ثراء، تمتلك كمية هائلة من النفط في مقابل سكان لا يتجاوز عددهم 6 ملايين نسمة، وكان من المتوقع أن تعبر إلى مرحلة الديمقراطية برخاء وأبهة، دون حاجة لأي مساعدة أجنبية، ولكنها انزلقت إلى حرب أهلية غريبة، في الثمانية أشهر التي أعقبت سقوط القذافي صعد العديد من التنظيمات المسلحة، وأصبحت هناك حكومتان متصارعتان تسعى كل واحدة منهما للاستيلاء على عائدات النفط، وقد أعلن وزير النفط في واحدة منهما أنه خلال عام واحد فقط ستعلن ليبيا إفلاسها وتصبح “الصومال الثانية”، وقد وقعت إحدى الحكومتين على الاتفاق الذي أشرفت عليه الأمم المتحدة ووافقت على الاندماج، موافقة بلا أهمية، لأن بقية التنظيمات المقاتلة لم تمثل في الاجتماع، كما أن أنف “داعش” الذي يسعى دائمًا خلف رائحة النفط قادها للدخول في دوامة الصراع واستولى على مساحة كبيرة من الأرض ويخطط لتكون ليبيا هي مستعمرته ودولته الرئيسية.

أما اليمن السعيد، التعيس الحظ، فما زالت يدفع ثمن التوترات القبلية، والتميز الطائفي، وعناد الجماعات المسلحة، هؤلاء الذين يشكلون الدولة، إن كان يمكن أن نطلق عليها دولة، المباحثات التي عقدت في سويسرا تجاهلت وجود تنظيم القاعدة، رغم أنها المنظمة التي أثبتت وجودها وفعالياتها في اليمن في الشهور الأخيرة، وقامت بخطف عدد من الموظفين الأمريكيين، أكثر من 80% من اليمنيين أي حوالي 26 مليونا أصبحوا بدون كهرباء ودون مياه صالحة للشرب ويقفون على حافة المجاعة، وزاد من تفاقم الأمر حين تدخلت الشقيقة الكبرى لتضع الملح على جرح اليمن الدامي وتزيد من دماره.

وفي سوريا ما زالت الحرب مشتعلة بين قوات الحكومة وعدد لا يحصى من التنظيمات المسلحة، لا أحد يعرف كيف تجمعت؟ اشتعلت الثورة في سوريا بشكل عرضي حين رسم طفل على جدران المدينة شعارًا ضد الحكومة، واعتقل الطفل وأهله وجيرانه وكل من عبر شارعهم، وقتل ربع سكان المدينة، ثم تصاعد منطق الدمار، وشهدت سوريا أكبر دمارعرفته البشرية منذ الحرب العالمية الثانية، وعبر الحدود ملايين من اللاجئين السوريين الذين يبحثون عن مأوى، كانوا من أفضل الشعوب العربية تعليمًا، وأكثرهم إنتاجًا للمواهب.. كانوا ولم يعودوا، وفي خضم الفوضى انتهز “داعش” فرصة فراغ القوة واستولى على ثلث الأراضي السورية، وأعلن الخليفة أن عاصمته هي مدينة الرقة، وقامت قواته بتدمير واحدة من أقدم المدن الأثرية في التاريخ، وقيل إن الخسارة توازي مئتي بليون دولار، وتقول المنظمات الدولية إن سوريا تحتاج إلى عشرين عاما لتستعيد جزءًا منخفضًا من مستواها الاقتصادي قبل الحرب، هذا لو انتهت الحرب الآن ولم يحدث المزيد من الدمار.

في مصر الأمور أفضل، ولكن ليست كما يأمل الثوار، فلم يتحقق شيء من أحلامهم، رغم أنه عندما أزيح مبارك عن حكم مصر شعر العالم بأن هذه واحدة من اللحظات النادرة التي نرى فيها التاريخ وهو يتشكل، لقد تكلم الناس في مصر أخيرًا، وسمع الجميع صيحاتهم، ولكن الأحوال لم تسر بهذا القدر من التفاؤل، تقارير حقوق الإنسان تتحدث عن انتهاكات كثيرة لحقوق الإنسان، عن التعذيب داخل السجون، عن قمع المعارضين والمحاكمات غير العادلة، في أكتوبر الماضي أعلنت الجماعة المتمردة في سيناء مسئوليتها عن إسقاط الطائرة الروسية ومقتل كل ركابها، وهناك مخاوف شديدة من أن يرحل الشباب الذين أغلقت أبواب الأمل السياسي في وجوههم إلى حيث توجد الدولة الإسلامية في العراق أو سوريا أو ليبيا ليبحثوا عن نوع من الخلاص الزائف.

يشبِّه البعض حالة الربيع العربي بالأيام الأخيرة من الثورة الفرنسية، ولكن الأمور في العالم العربي أكثر تعقيدًا، فهناك قوى كبرى تملك القوة والموارد تبعد عنه آلاف الأميال ومع ذلك تتحكم في مصيره، وهناك قوى محلية لا تريد أن تتخلى عن الحكم حتى لو استلزم الأمر أن تضحي بشعبها، وهناك إسرائيل الناصحة الواعية التي تريد أن تقف وحدها وسط حقل من الحطام العربي.

الثورة لم تنته بعد، ولكن المعركة ما زالت في غاية الصعوبة، والثوار الذين حملوا مشعل الثورة اختفوا أو سجنوا أو اضطروا إلى الهرب، فهل ما زالت لديهم فرصة؟

إن حلم الرجل الذي أحرق نفسه من أجل طائر لم يمت بعد، وما دامت الحكومات تتعامل بهذه الدرجة من العجرفة وقلة العدالة فلن تستقيم الأمور، وسيعود الربيع من جديد.

المصدر

زر الذهاب إلى الأعلى