أعمدة

محمد المنسي قنديل | يكتب : مبارك لصًّا.. ماذا علينا أن نفعل؟

محمد المنسي قنديل

أخيرًا ظهر في مصر قاضٍ شجاع، استطاع أن يصدر حكمًا شجاعًا، إنه القاضي “فرحان بطران” الذي أصدر أول حكم ضد عدو الشعب المصري رقم واحد حسني مبارك واللصين من أبنائه، حكم صغير في محتواه، كبير في دلالته.

10111702573090381762735546171647058254

فقضية أموال “القصور الرئاسية” تعد بسيطة مقارنة بحجم القضايا المفزعة التي استطاع مبارك ونظامه الإفلات منها، فقد تخاذل القضاة الذين حاكموه من قبل، ولم يجرؤوا على المضي قدما في محاكمة جادة يحاسبونه فيها على جرائمه في حق الشعب، الذين حاكموه بتهمة قتل المتظاهرين، كان الدم رخيصًا في نظرهم، فتعللوا ببعض الإجراءات القانونية الشكلية، جعلوه يفلت من جريمة عقوبتها الوحيدة كانت الإعدام، والذين نظروا في قضية في فيلات شرم الشيخ وأراضي الطيارين، كان نهب مال الشعب حلالًا عندهم، فتعللوا بتقادم التواريخ وأسقطوا القضايا، والشيء نفسه تكرر في قضية بيع الغاز لإسرائيل، لم تكن في قلوب هؤلاء القضاة ذرة من الغيرة والوطنية حتى يحاسبوه عن الذل الذي أصبحنا نعيش فيه، ليحاسبوه عن القمع والفساد وانهيار التعليم وتدهور المستوى الصحي ودخول مصر في حزام الفقر، جميعهم غضوا البصر عن أسوأ ثلاثين عامًا في تاريخ مصر، وظل المتبجحون يهتفون باسمه ويدعون شرف الدفاع عنه، الدفاع عن كل ما هو فاسد وخسيس، ولكن هذا الحكم الأخير رد الاعتبار للقضاء المصري الذي فرط طويلاً في حقوقنا كمصريين، ويجب أن نعتبره حجر زاوية نؤسس عليه رد الاعتبار لكل الذين تم الافتراء عليهم في ظل الغوغائية القائمة في مصر، يجب علينا:

أولاً: رد الاعتبار لثورة 25 يناير المجيدة، فمع اقتراب ذكراها يصدر هذا الحكم ليؤكد أنها كانت على حق حين هبت وحين صمدت دفعت الثمن من دماء شبابها، لم تكن مجرد مؤامرة عالمية كما يتوهم البعض، كذلك رد الاعتبار لثوارها الذين كانوا وما زالوا أنقياء وطنيين، وليسوا عملاء أو ممولين من أحد، فلم تثبت عليهم أي قضية تمس شرفهم أو ذمتهم، والذين يقاسون محنة السجن منهم قد تم سجنهم لأنهم كانوا يدافعون عن رأيهم ويجأرون بمبادئهم المجردة من أي منفعة، بينما أكد هذا الحكم الأخير والوحيد أن مبارك كان لصًّا حقيقيًّا لا يتورع عن اختلاس أموال الصيانة المخصصة لقصوره، وتقديم الفواتير المزورة، وتهديد من تسول له نفسه أو يتعبه ضميره، إنها ثورة الشرفاء الذين لم يحاولوا أن يستأثروا بالسلطة ولا الثروة، وبلغ بهم النقاء حد الغفلة فتركوا الميدان لقاء وعود غامضة من المجلس العسكري بتحقيق أمانيهم، وبدلاً من ذلك قام المجلس بتسليم السلطة للإخوان، المهم الآن أن أولى خطوات رد اعتبار ثورة يناير هي خروج شبابها من السجن، فلا يليق بنظام جاء نتيجة ثورتين أن يبقي شبابه خلف القضبان، ومن العار أن يحافظ الجيش على مبارك اللص في أفخر أجنحة العلاج بمستشفاه وأن تعالجه الدولة مجانًا على نفقتها وهو الذي امتص دماء أبناء شعبها.

464980711758623368

ثانيًا: رد الاعتبار إلى “معتصم فتحي” ضابط الرقابة الإدارية الشجاع الذي استطاع بصعوبة وشرف أن يحافظ على الأدلة التي تدين مبارك وأولاده في هذه القضية, وأن يقاوم كل الضغوط التي مورست عليه ووصلت إلى حد إبعاده عن عمله، وهو ما زال مبعدًا حتى الآن، هذا الضابط هو أول من قدم بلاغًا ضد هذه الأسرة الفاسدة، وظل يدعم اتهامه بالمستندات الفعلية، ففي عهد مبارك كان هناك دائمًا نوعان من هذه المستندات، تلك التي تحتوي على التكاليف الحقيقية، وهذه يجب أن يتم إعدامها أو إخفاؤها جيدًا، وأخرى تحتوي على الأرقام المبالغ فيها وتبرر التجاوزات المالية، وهذه هي التي تقدم للرقابة، في هذه القضية بالذات أفلتت المستندات الحقيقية من قبضة سدنة النظام ووقعت في يد هذا الضابط الشريف، ولكن رؤساءه كانوا له بالمرصاد، ضغطوا عليه ليعدم كل ما لديه من مستندات لكنه رفض، قاموا بنقله من عمله بالرقابة إلى منصب هامشي في وزارة الصناعة بعيدًا في محافظة البحيرة فظل على صموده، خفضوا راتبه من 12 ألفًا إلى 1400 جنيه فقط، حافة الحد الأدنى للأجور، حرموه من امتيازاته التأمينية ومكافأة نهاية الخدمة، أوقعوا به تنكيلاً لا مبرر له للتغطية على نظام ساقط، ونصب رئيس الجهاز من نفسه عدوًّا لهذا الضابط الشريف وأصر على أن يقف ضد عودته مرة أخرى لممارسة عمله، وهذه أغرب واقعة بين هذه الوقائع الغريبة، فبعد أن استطاع “معتصم فتحي” أن يقيم قضية على الجهاز ويفوز بها ويعود إلى عمله لم يرحمه هذا الرئيس، كان قد أقيل من منصبه، وابتعد نهائيًّا عن الجهاز، ولكن المفاجأة أنه تم اختياره مرة أخرى في منصب سيادي بالغ القوة والتأثير، وكان أول ما فعله هو أنه استغل قوة نفوذه التي أصبحت مطلقة في إقصاء هذا الضابط الشريف عن عمله.
شبكة متداخلة من الفساد عصية عن التفكك، وجد “معتصم فتحي” نفسه أسير خيوطها، فقضايا الفساد التي كشفها على مدى 15 عامًا تؤكد أنه كان يواجه دولة هرمة كل الرؤوس الكبيرة فيها فاسدة حتى النخاع، رؤساء هيئات ومؤسسات عامة أدمنوا الاختلاس وسرقة المال العام وتلقي الرشاوي، مثل رؤساء الصرف الصحي والشركة القابضة للقطن وشركة الحاصلات الزراعية ورئيس التخطيط العمراني وشركة الزيوت المستخلصة ورئيس الشركة العامة للمقاولات، وغيرهم من الرؤوس الكبيرة الذي كان سببًا في سقوطها، تولى “معتصم” كشفهم بنفسه وكان سببًا في سجنهم، ولكن قضية “القصور الرئاسية” كانت أهم قضاياه، رغم أنه دفع ثمنها غاليًا، فقد استطاع أن يقتنص رأس الفساد الأول في مصر.

ثالثًا: دعم لجنة استرداد الأموال المهربة للخارج، فقد حان وقت البحث عن أموال أسرة مبارك المختفية، لقد عجزنا طوال الأعوام القليلة التالية للثورة عن المطالبة بهذه الأموال لأنه لم يصدر حكم قضائي واحد يدين هذه الأسرة، منذ اليوم الأول لسقوط النظام وكل الدول والمنظمات المالية تؤكد علينا هذا الأمر بوضوح، فبعد أن أعلنت سويسرا عن وجود بعض هذه الأموال، أرسلت لنا فريقًا يشرح لنا آليات استرداد هذه الأموال، وكان أهمها وجود حكم نافذ وصحيح يؤكد فساد ذمة الرئيس، لذا لم يتم تحويل أي من أفراد النظام إلى أي محكمة استثنائية، ولكن تمت محاكمتهم، حتى القتلة منهم أمثال السيد الرئيس ووزير داخليته، أمام القضاء العادي، وكان بعض القضاة من النزق بحيث فرطوا في حق الشعب دون أن يصدروا حكمًا واحدًا طوال هذه السنوات، إن القضية التي ضبط مبارك مدانًا فيها لا تعدو مبلغًا صغيرًا لا يتجاوز 47 مليون جنيه، ربما يمثل مصروف يد لواحد من أحفاده، وسوف يدفعونه سريعًا لأنه لا يمثل شيئًا في ثرواتهم المخبأة، ولكن المهمة الملقاة على عاتق النظام الآن هي التمسك بهذا الحكم واسترداد أموالنا الضائعة.

ها هو رد الاعتبار الذي نريده، أن يكون هذا الحكم منطلقًا للتخلص من إرث الماضي والوفاء الأبله لكل الأصنام القديمة، ويجب تجريد مبارك من كل امتيازاته وأوسمته، فلا يليق اعتبار واحد من اللصوص بطلاً من أبطال الحرب.

 المصدر

زر الذهاب إلى الأعلى