منوعات

قصة مجاعة ضربت القاهرة: المصريون يأكلون لحوم البشر والجيفة

قصة مجاعة ضربت القاهرة المصريون يأكلون لحوم البشر والجيفة

ربما يظن البعض أن القصص الأسطورية التى تتحدّث عن آكلي لحوم البشر، قصصٌ وهمية، ولكنها حقيقة ولم تحدث في بلادٍ بعيدة عنّا، بل شهدتها  عبر العصور القديمة والوسطى، إثر المجاعات التى أودت بحياة الآلاف من سكان وادي النيل، كان بعضها بسبب الأوبئة مثل الطاعون والكوليرا، والتي كانت تجتاح بعض الأقاليم المجاورة لمصر، والبعض الآخر كان بسبب المجاعات الشهيرة الناجمة بالأساس عن انخفاض فيضان النيل، وهي أيضًا تأتي وبرفقتها بعض الأوبئة الفتاكة.

ونظرًا للطبيعة الموسمية لنهر النيل، كان انخفاض الفيضان يؤدي إلى قحط شديد وكذلك كان ارتفاعه الجامح يؤدي إلى إغراق القرى بالماء، والنتيجة المنطقية في الحالتين هي انعدام الأقوات، وحسبْ أحد الكتاب فإن القنطرة التى تفصل بين الحياة الرغدة والموت الذريع، لم تكن إلا قنطرة ضيقة.

وتشير أقدم النصوص التاريخية إلى قصة السنين السبع العجاف، التي يرجع تاريخها إلى عصر الأسرة الثالثة، القرن 28 قبل الميلاد، وفيه ثبُت أن النيل تخلف في عصر الملك زوسر 7 سنوات، فشحت الغلة وجفت الفاكهة، وقل الطعام.

أما في العصور الوسطى فقد تكررت المجاعات، بسبب انخفاض فيضان النيل، إثر تأخر ولاة البلاد عن اتخاذ الإجراءات الكفيلة بمنع انحدار النيل الذي أدى إلى كارثة الموت جوعًا، وكان العصر الفاطمي المحطة التاريخية الأبرز في سياق تلك الأحداث.

View_in_the_Delta_during_the_inundation_of_the_Nile._(1847)_-_TIMEA

وكان هُناك ارتباطا وثيقا بين المجاعات الناجمة عن انخفاض فيضان النيل وانتشار الأوبئة وخاصة وباء الطاعون، وتشير المصادر التاريخية إلى أن السبب في ذلك هو جفاف الأراضي الزراعية، وتشققها وانطلاق الفئران منها، كما ارتبط وباء الطاعون بظهور هذه الفئران، وكان انتقال العدوى منها للإنسان يتم بواسطة البراغيث التى تترك الفئران المصابة، وهى على وشك الهلاك لتنتقل إلى الإنسان فضلا عن أن الفيضانات العالية للنيل والتى تؤدى لإغراق الأراضي الزراعية، كان يعقب انحسار ماء هذه الفيضانات انتشار الوباء في البلاد.

ومن العوامل التى تساعد على تفشي الأوبئة، ازدحام البيوت بالسكان وخاصةَ في الفسطاط التى تتكون بعض الدور فيها من 7 طوابق، وربما يسكن في الدار المئات من الناس، فإذا أضيف لذلك العادات غير الصحية التى يتبعها السكان كأن يرموا ما يموت من القطط والكلاب في الشوارع والنيل، فضلاً عن تعذر دفن الموتى بشكل فوري، نظرًا لكثرة أعداد الضحايا وتدنى مستوى الطب الوقائي، عرفنا مدى فداحة الخسائر التى كانت تقع بين السكان.

«المصري لايت» يرصد لكم قصة المجاعات التى شهدتها مصر بدءً من «الشدّة المستنصرية» وحتى أكل لحوم البشر، وفقًا للمعلومات التى وردت في عدد مجلة «ذاكرة مصر المعاصرة»، الصادر عن مكتبة الإسكندرية، ومقال دكتور أحمد الصاوي.

الحاكم بأمر الله

تعدّدت في العصر الفاطمي وقائع الموت أثناء المجاعات، إما بسبب عدم وجود الطعام أو نتيجة لانتشار الأوبئة في سنوات الانخفاض في فيضان النيل، وكانت البداية عند دخول جوهر الصقلي لمصر في عام 969 ميلاديًا، حيث كانت البلاد تعاني من صعوبات شديدة في الأيام الأخيرة للدولة الإخشيدية، وانتشار عميم للأوبئة الفتاكة مما أدى لموت كثير من سكان الفسطاط، حتى إن المقريزي يعزو إنشاء الفاطميين لمدينة القاهرة إلى خراب الفسطاط، وفناء أغلب سكانها.

وشهدت خلافة الحاكم بأمر الله الفاطمي، حدوث مجاعة خطيرة في عامي، 397 و398 هجريًا نتيجة لعدم وفاء الفيضان اضطر خلالها الخليفة، لاتخاذ عدة اجراءات لمنع الاحتكار وتوفير القمح والخبز في الأسواق، فضرب بعض الخبازين والتجار وشهرّ بهم بالأسواق ومنع تخزين الحبوب، وقرر أسعارًا محددة للسلع الغذائية، وتوعد كل من يخالف التسعيرة بالقتل، وقد أدت هذه الإجراءات إلى تخفيض الأسعار وتوفير الأقوات.

an arab street,Frederick Goodall

ورغم اتخاذ الحاكم لعدة تدابير طبية وقائية، مثل الأمر بقتل الكلاب الضالة، ومنع بيع بعض الأطعمة والأشربة مثل الفقاع والملوخية، والدلنيس، سمك نيلي بلا قشر، والتى كان يعتقد أنها تساعد على انتشار الأوبئة بسبب طرق إعدادها وطهيها.

ونظرًا لتفشي الموت، فقد كانت المواريث تنتقل في اليوم الواحد عدة مرات، بل إن عائلات بأكملها فنيت حتى لم يعد هناك وارث لثرواتها وممتلكاتها، ولجأ الحاكم عندئذ لإنشاء ديوان المفرد الذي كانت تنقل إليه أملاك من ماتوا دون وريث أو من أمر الحاكم بقتلهم لمخالفتهم أوامره خلال فترة الأزمة الاقتصادية.

وقبيل اختفاء الحاكم بأمر الله، شهدت البلاد مجاعه خطيره فى عام 410 هجريًا، حيث ارتفعت الأسعار ومات كثير من الناس بالجوع، وبلغ عدد من مات فى شهور رمضان وشوال وذى القعده 270 ألفاً إضافة إلى الغرباء وهم أكثر من ذلك.

المُستنصر

وبلغت الشدة المستنصرية مداها المأساوى لولا تلك الملامح والسمات الخاه لفتره حكم المستنصر بالله الذى تولى الخلافه فى عام 427 هجريًا، وهو فى السابعه من عمره، فنتيجه لصغر سن الخليفة وضعف شخصيته تزايد نفوذ الوزراء وقاده الجند، واحتدم الصراع بين فرق الجيش للسيطرة على الحكم، وزاد الطين بله دخول التجار إلى أروقه الحكم وتولى بعضهم منصب الوزاره الأمر الذى أدى لتغييرات جوهرية فى السياسة الداخلية للفاطميين وخاصة فيما يتعلق بمكافحه الغلاء وتجنب الآثار السلبية لانخفاض فيضان النيل.

وكانت أولى مجاعات عهد المستنصر في عام (444 هجريًا)، وذلك أثناء وزارة اليازوري التاجر القادم من الأراضي الشامية، وعلى الرغم من أن المقريزي يشير إلى أن سبب هذه المجاعة هو انخفاض النيل، فإن المصادر التاريخية تتفق على أن الفيضان تجاوز 17 ذراعًا في تلك السنة، وهو ما يدفعنا للبحث عن عامل الدولة وطبيعة دورها في تلك المجاعة.

أول أزمة جوع وغلاء شهدتها مصر بعد الإسلام

ويمكن الجزم بأن سبب تلك المجاعة هو تغيرر اليازوري لوظيفة المتجر السلطاني، وهو إدارة حكومية تمتلك العديد من المخازن التى توضع بها المشتريات من السلع والبضائع، التى تحتاجها الإدارات الحكومية وقصور الخلافة، بالإضافة إلى بعض السلع التى يبيعها المتجر لتحقيق الربح.

وتقليديًا كان المتجر يخصص كل عام 100 ألف دينار لشراء الغلال كاحتياطي غذائي، يتم توزيعه وقت الأزمات على الطحانين والخبازين بالسعر العادل، وكان وجود هذا المخزون كفيلاً بمنع التجار من التفكير في التلاعب بالأسعار.

فقد حدث عندما كان اليازوري قاضيًا أن نظر في قضية مفادها أن بائع خبز باع الخبز بأقل من السعر المحدد في الأسواق، خشية كساده، فعاقبه عريف الخبازين بالضرب والغرامة، فاشتكى إلى القاضي اليازوري الذي ذهب بدوره للخليفة وزين له أن يتخلى المتجر السلطاني عن شراء الغلال وبيعها في الأسواق.

وطالما أن الرخاء يعم البلاد، وأن يتبنى المتجر سياسة ربحية بشراء وتخزين السلع التى لا تفسد بمرور الزمن والتى يرتفع سعرها، ووافقه المستنصر بالله على أن يقيم متجرًا لا كلفة فيه على الناس، ويفيد أضعاف فائدة الغلة ولا يخشى عليه من التغير في المخازن لانحطاط سعره، وشرع اليازوري يشتري للمتجر الخشب والصابون والحديد والرصاص والعسل.

337_001

وجاء الاختبار الحقيقي لسياسية المتجر الجديدة، عندما انخفض فيضان النيل، ولم يتجاوز 15 ذراعَا إلا ببضع أصابع، ورافق انخفاضه وباء فتاك عمَّ البلاد، ولم يكن في المخازن السلطان إلا جرايات من في القصور ومطبخ الخلفية وحواشيه.

واضطر اليازوري إلى مصادرة ما كان بمخازن تجار الغلال، وأربح كلا منهم دينارا مقابل كل دينار من مشترياتهم، وسارع إلى توزيع الغلال وضبط الأسواق لتجنب خطر المجاعة.

وصحب هذه المجاعة وباء شديد أودى بحياة كثيريين وخاصة في عام 447 و448 هجريًا، حتى أن عطارًا باع في يوم واحد ألف قارورة شراب، وقُدر من مات في مصر خلال عام 448 هجريًا، بألف إنسان كل يوم.

ويذكر أن 3 من اللصوص نقبوا بعض الدور فوجدوا عند الصباح موتى، الأول على باب النقبة، والثاني على رأس الدرجة، والثالث على الثياب التى كورها.

ونتيجة للمجاعة التى وقعت عام 455 هجريًا، بسبب وصول الفيضان لحد الغرق، انتشر وباء الطاعون فمات في 10 أشهر كل يوم ألف إنسان أي ما يقرب من 300 ألف شخص.

إلا أن كل هذه الوقائع تتضاءل أمام جسامة أحداث المجاعة التى احتاجت مصر لمدة 7 سنوات، واشتهرت هذه المجاعة باسم الشدة المستنصرية، والتى يقال إنه لم يحدث مثلها منذ زمان يوسف عليه السلام.

مجاعة

وسبب بداية هذه المجاعة هو قصور ماء الفيضان، فارتفعت الأسعار وأعقب ذلك الوباء حتى تعطلت زراعة الأرض لموت الفلاحين، وظل الفلاحين والنيل بعد هذه السنة يمد وينزل فلا يوجد من يزرع الأرض، ولا جدال في أن ضعف السلطة المركزية والصدام المسلح بين فرق الجند الفاطمي، قد فاقم من النتائج المأساوية لتلك الشدة التى بلغت ذروتها، فعظم الجوع واشتدّ الوباء وانتشر السلب والنهب، ولعل ذلك عائد لمحاصرة ناصر الدولة بن حمدان، لكل من القاهرة والفسطاط في ذلك العام.

وخلال هذه السنوات السبع انهارت القوة الشرائية للنقود، وارتفعت أسعار المواد الغذائية بشدة حتى إن حارة بالفسطاط بيعت بطبق خبز، كل رغيف فيه بمنزل، فعرفت لذلك بحارة الطبق.

ونظرًا لاشتداد المسغبة وطول أمدها لجأ الناس إلى أكل نحاتة النخل، بل طبخوا جلود البقر وباعوها رطلاً بدرهمين، ثم أكل الحيوانات الأليفة فبيع الكلب ليؤكل بخمسة دنانير والقط بثلاثة دنانير، ولم تسلم دواب الخليفة من السرقة لتؤكل حتى لم يبق له سوى 3 أفراس بعد أن كانت 10 آلاف ما بين فرس وجمل ودابة.

وحدث أن وزير المستنصر ترك على باب القصر بغلته، وليس معها إلا غلام واحد، أخذوا البغلة منه، فلم يقدر على دفعهم لضعفه من الجوع، وذبحوها وأكلوها فأخذوا وصلبوا، فأصبح الناس فلم يروا إلأ عظامهم، إذ أكل الناس في تلك الليلة لحومهم.

أكل لحوم البشر

وتعدى الأمر إلى أكل الجيف والميتات ثم لحوم الآدميين، فيذكر أن طوائف من أهل الفساد، اعتادت أن تسكن بيوتًا قصيرة السقوف قريبة من المارة تمكنها من خطف المارة، بواسطة خطاطيف، وحبال أعدوها لذلك ليقوموا بعد خطف الضحية بضربه بالأخشاب حتى يتمكنوا من تشريح لحمه وأكله.

ويبدو أن قصص أكل لحوم البشر لم تكُن من نسج خيال الكُتَّاب، إذ أورد لنا، ابن دقماق، اسمين لزقاقين بالفسطاط لهما صلة بتلك القصص، أولهما زقاق البواقيل الذي يُعرف أيضا، بزقاق الندافين، حيث كان جماعة أيام الشدة المستنصرية، يقفون تحت القبو هناك، فمن مر بهم ندفوه ونزعوا ما عليه ورموه في بئر هناك، وثانيها هو زقاق العكامين، حيث كان أناس يعكمون المارة بأكر في أفواههم ثم يحملونهم إلى زقاق القتلى، ليقتلوهم فيه فسمي بذلك، وصارت لحوم الآدميين سلعة رائجة يقوم الطباخون ببيعها مطبوخة بعد أن يذبحوا ضحاياهم من الصبيان والنساء.

170cd06c 2032 47ec 8cc2 410d81b2344f

ومن حوادث أكل لحوم البشر الشهيرة، ما ذكر عن امرأة خطفها إنسان، وكانت بدينة فأدخلها بيتًا فيه سكاكين وآثار الدماء وزفرة القتلى، وأوثقها  وأخذ يشرح من أفخادها، ويشوي حتى شبع وسكر، ففرت منه واستغاثت بالوالي الذي كبس الدار وضرب عنق الرجل.

وربما كان أكل الجيف والميتات ولحوم البشر، من أهم الأسباب التى أدت لانتشار الوباء الذي كثرت ضحاياه حتى عجز الناس عن تكفين موتاهم، فألقوهم في الحفر جماعات وأهالوا التراب عليهم أو قذفوا بهم في النيل دون أكفان.

ويقدر البعض أن الشدة المستنصرية، وما صاحبها من الأوبئة قد أفنت قرابة ثلثي أهل مر، خاصةً مع انتشار الجدري بين الأطفال، فقد أفنى هذا الوباء 21 ألف طفل في شهر واحد.

كما تركت الشدّة المستنصرية تأثيرًا كبيرًا على التوزيع الديموغرافي للسكان، حيث كان أعداد الموتى كبيرة في الريف حتى فنيت قرى بأكملها، وهجر من بقى ببعض القرى بلادهم، متجهين للقاهرة والفسطاط، وقد تناقصت أعداد القرى بشكل واضح فبعد أن كان عددها في بداية العصر الإخشيدي، يبلغ نحو 2395 قرية نقص هذا العدد، في نهاية العصر الفاطمي.

fe7ee4b8 e91a 47c9 ad36 d423d5521c32

ولم تسلم العاصمة من الوباء الذي أفنى ثلثي سكان مصر، حتى إن الرجل كان يمشي من جامع ابن طولون إلى باب زويلة، يرى في وجهه إنسانًا يمشي في الأسواق، وبلغ الوباء عنفوان فتكه بالناس، فكان يموت الواحد من أهل البيت في القاهرة أو الفسطاط، فلا يمضى ذلك اليوم حتى يموت سائر من في البيت.

وبلغت الوفيات حدَّا عجز الناس معه عن موارة الأموات، فكفنوهم في الأنخاخ ثم اضطروا إلى حفر حفائر كبيرة يلقون فيها الأموات بعضهم على بعض، حتى تمتلئ الحفيرة بالرمم من الرجال والنساء والصغار والكبار ثم يهال عليها التراب.

وزادت ضراوة الوباء في عام 463 هجريًا في القاهرة والفسطاط، حتى أن أهل البيت كانوا يموتون في يوم واحد، ولا يوجد من يدفنهم، وقد اضطر الناس في العام التالي إلى إلقاء موتاهم في النيل بغير أكفان.

وإذا كان الوباء أدى إلى وفاة كثير من السكان وخراب الريف، حتى إن البلاد كانت بحاجة لفترة طويلة من الزمن لتعود سيرتها الأولى، فإن الحروب والفتن التى رافقت991 الشدة قد ضاعفت أ أيضًا من أعداد الضحايا وعمقت الاتجاه التنازلي لأعداد السكان.

 

 

المصدر 

زر الذهاب إلى الأعلى